في مجتمعٍ كالمجتمع اليمني، يتجه كل يوم نحو كارثةٍ شاملةٍ في مختلف مناحي الحياة، بحيث لا يمكن حصر تبعاتها وأثرها المأساوي على حياة اليمنيين، وذلك في ضوء استمرار تجاهل سلطات الحرب والمجتمع الدولي أبعاد الحالة الإنسانية المتدهورة في اليمن، وتقاعسهم عن إيجاد حلولٍ جذرية لها، فقد كرّست بيئة الفقر والخراب في اليمن، طوال سنوات الحرب، واقعاً لاإنسانياً، شلّ قدرة اليمنيين على مواجهة متطلبات هذا الواقع القهري المفروض عليهم، حيث تمظهر هذا الانهيار الكارثي في تفشّي الأوبئة والأمراض المختلفة في المدن اليمنية، كحمّى الضنك وإنفلونزا الخنازير وفيروسات حُميّة أخرى لم يُعرف بعد تشخيصها، حتى امتدّت إلى الأرياف اليمنية التي كانت آمنةً نسبياً، وفتكت بعشرات المواطنين العزّل من كل ما هو إنساني ووطني.
ولم يكن هذا الواقع المأساوي ناجماً عن اتّساع رقعة الأعمال القتالية في اليمن، كغيرها من بلدان الحروب، وإنما بسبب الآليات الفاشلة لسلطات الحرب وحلفائهم الإقليميين، بما في ذلك الأمم المتحدة، في إدارة الوضع الإنساني في البلاد، بحيث فاقمت بؤس اليمنيين، فإذا كان قتلُهم جرّاء آلة الحرب جريمةً مكتملة الأركان، يتحمّل مسؤوليتها أطراف الصراع وحلفاؤهم الإقليميون، فإن موت اليمنيين اليوم بسبب تفشّي الأوبئة جريمة مضاعفة، ففيه قصدية في استدامة واقع الفقر والأمراض في اليمن، وبالتالي الاستسهال الرخيص بحياة اليمنيين.
تكشف العقلية الإجرامية عن نفسها في أداء سلطات الحرب المحلية في اليمن، فقد نجحت سياستها في تخليق بيئةٍ مثاليةٍ لموت اليمنيين، حيث فاقمت سياسة الإفقار الممنهج التي اتبعتها سلطات الحرب من الوضع الكارثي لليمنيين، إذ اتّسعت رقعة الفقر، حتى شملت معظم الشرائح الاجتماعية، وأصبح هؤلاء عاجزين تماماً عن تدبّر معيشتهم اليومية، وكذلك وقاية أنفسهم من الأمراض، بما في ذلك افتقارهم لنفقة العلاج، كما ضاعفت أزمة رواتب موظفي الدولة من هذه المعاناة، حيث حُرم معظم الموظفين الحكوميين من القدرة على علاج أنفسهم، فيما أسفرت أزمة الرواتب عن نتائج كارثية أخرى، وهي مراكمة القاذورات في المدن اليمنية، لعدم حصول العاملين في قطاع النظافة على أجورهم، كما نتج عن تخريب سلطات الحرب وحلفائهم الإقليميين البنية التحتية تعطيل القطاع الخدمي في اليمن، وهو ما تسبّب بحرمان اليمنيين المفقرين من الخدمات الصحية التي كانوا يحصلون عليها سابقاً من المستشفيات الحكومية، فيما امتدّت أزمة المياه إلى معظم المدن اليمنية، وانعدمت المياه الصالحة للشرب، كما اختلط الصرف الصحي بمياه الشرب في بعض المناطق اليمنية. وبالتالي أسهم الفقر المدقع المفروض على اليمنيين، وانتفاء شروط الحياة الصحية في تفشّي الأوبئة، بحيث أصبح الموت جرّاء ذلك نتيجةً طبيعيةً لنوع هذه الحياة البائسة.
تدمير سلطات الحرب ما تبقّى من البنية الصحية في اليمن انعكس على واقع المستشفيات الحكومية وعلى المستوى المتدني لخدماتها، فعلى الرغم من الواقع البائس لهذه المستشفيات، لا يزال معظم اليمنيين يقصدونها، وذلك لانخفاض كلفتها بالنسبة لهم، إلا أن مستوى خدماتها يمثل خطورةً كبيرةً على حياة اليمنيين، ففي حين تنازعت القوى المحلية المتصارعة على إدارة هذه المستشفيات، فإنها لم تعمل على الارتقاء بأدائها، وإنما ساهمت في تخريبها، إذ أحلت كادرا مواليا لها غير مؤهل لإدارة هذه المستشفيات، وأزاحت الموظفين التكنوقراط الذين كانوا يديرونها سابقاً، ما أدّى إلى انعدام كفاءة هذه المؤسسات، بحيث تدهورت خدماتها الصحية، إذ هبط مستوى طاقمها الطبي، فضلا عن هجرة معظم الأطباء الجيدين إلى خارج اليمن، وذلك بعد توقف سلطات الحرب عن دفع رواتب الموظفين، كما افتقرت مختبراتُها الطبية وأهملت، حتى أصبحت هذه المعامل سبباً إضافيا في انتشار الأمراض بين المواطنين. وفيما واصلت سلطات الحرب استهداف المستشفيات الحكومية، في خطوة أولى لخصخصة القطاع الصحي، أصبحت المؤسسات الصحية التي أقامتها على أنقاض المستشفيات الحكومية، هي الأخرى، أماكن لتصدير الأوبئة، إذ تفتقر معظم هذه المستشفيات إلى شروط المؤسسات الصحية المتعارف عليها.
الأخطر من ذلك ما وصل إليه مستوى تأثير الأدوية في غضون الحرب على حياة اليمنيين، فقد سيطرت سلطات الحرب وأنصارها على سوق الدواء في اليمن، حيث جعلتها تجارةً رديفةً لمصادر دخلها غير المشروع، فقد أسّست شركات أدوية تابعة لها حتى مكّنها في الأخير من احتكار سوق الأدوية، يقوم عليها تجار وسماسرة تابعون لها، يستوردون أدويةً من وكلائهم الإقليميين، هي غالباً منخفضة القيمة العلاجية، كما أدارت هذه الشركات تجارة تهريب الأدوية، وأقامت سوقا سوداء خاصة بها، واحتكرت أيضاً أدوية الأمراض المزمنة، وضاربت على أسعارها، ما جعل اليمنيين في الداخل ضحايا تجارةٍ لا إنسانية. ا السياسة اللاأخلاقية لسلطات الحرب المحلية، المليشاوي منها والشرعي، لم تكتف باستدامة بيئة الموت في اليمن، بل حوّلت كارثة تفشّي الأوبئة إلى موسمٍ مربح لتحصيل الأموال من المنظمات الدولية، فيما ظلّ تعاطيها مع تفشّي الأمراض والأوبئة قاصراً، ففي حين لا يزال يتكدّس مئات المرضى في المستشفيات الحكومية، فإنها حتى الآن تتجاهل استمرار تفشّي الأوبئة، إذا لم تتخذ تدابير سريعة لتطويقها، بما يؤدّي إلى منع انتشارها في المناطق الأخرى، وذلك حتى تظل ظاهرة انتشار الأوبئة تجارةً دائمة، لا تضاهيها في هذه الانتهازية إلا الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية العاملة في اليمن، فعندما تكون سلطات الحرب المحلية فاسدةً ولا مسؤولة حيال مواطنيها، وعندما تغيب الرقابة المجتمعية على أداء السلطات والمنظمات الإنسانية، فإن من الطبيعي أن يكون أداء المنظمات الدولية الإنسانية العاملة في اليمن عبثاً آخر مضافاً إلى عبث سلطات الحرب، إذ تمكننا مقارنة حجم الأموال التي تحصلت عليها هذه المنظمات، منذ بدء الحرب والواقع الصحي الحالي في اليمن، من فهم آلية عمل هذه المنظمات وأجنداتها غير الإنسانية تجاه اليمنيين، إذ لم تعمل هذه المنظمات على تحسين الوضع الصحي في اليمن، حيث لا زالت المستشفيات الحكومية تفتقر لكل الإمكانات لعلاج المواطنين، ومن ثم غير مؤهلة لمواجهة الأوبئة، فيما اكتفت هذه المنظمات بإنشاء مراكز متنقلة لمواجهة الطوارئ، كحلول آنية ترقيعية، لا تهدف إلى تمكين المؤسسات الصحية وإصلاح بنيتها، وبالتالي أدامت هذه المنظمات بئية الأوبئة في اليمن، لاستدامة مصادر تمويل نفقتها التشغيلية.
في يمن الحرب والفقر والأوبئة، كل الطرق تؤدي إلى الموت الرخيص، إذ لا جديد في هذا العام سوى استمرار موت اليمنيين جرّاء حياةٍ لا إنسانيةٍ مُهينةٍ وغير عادلة، يحصدون وحدهم ثمرتها المريرة، فيما ينظر العالم، كعادته، بتأفّف ونفاذ صبر لمِحنة مُختلقة يكتوي بنارها اليمنيون.