مع بدايات اتكاء الحكومة الشرعية تحت مظلة دول التحالف العربي كانت العيون حينذاك تتجه إلى قبة البرلمان في قلب العاصمة صنعاء، لكن ثمة إشكالية مصيرية جعلت المشهد السياسي اليمني ناقصًا بدون ربان أو قائد حكيم لأعضاء المجلس، فقرر اليمنيون والعالم أجمع اختيار الرجل الذي جمع بين السياسية والإنسانية "الشيخ سلطان سعيد البركاني" وهو إرثٌ أكد أن هذا الرجل سيصبح ملىء السمع - والبصر وفي مقدمة رجال عصره في الدفاع عن هوية وطنية وحدوية متداخلة مع هوية شعب حُرم من التأمل الحرّ في ذاته الإنسانية وسط ما أُعدَّ له من مصائر موجعة .
فقد قدر لهذا الرجل أن يعيش شاهدًا وشاعرًا ومشاركًا في تاريخ النضال اليمني والعربي بحيوية البعد التعليمي والثقافي في الصراع المرير على استعادة الحق الذي صادرته برغماتية حوثية مبتذلة لا تميز بين التسوية والسلام، ولا توازن بين الدفاع عن الحقوق وبين إدراك الممكن.
جاءنا صوت البركاني، وهو من القلائل الذين لم يروا في الخروج من صنعاء نهاية، إذ رأى اليمن أمامه : سنعود، جاءنا وقد اكتملت فيه العلاقة بين رموزه الشخصية الوطنية وبين عناصر مواقفه الشجاعة التي وجدت مدارها في حركة الزمن اليمني الحر التي لا تعرف الخيانة - والصفقات المشبوهة - والمقاهي الليلية - التي ينبحُ بها المهرجون .. جاءنا صوت البركاني وقد قرأنا فيه الشهادة الأنضج على حركة المقاومة الفلسطينية قبل أيام قليلة وعلى ما يعتمل في باطن الواقع وظاهره من صراع، وقرأنا فيه نص الخطاب العربي القومي القادر على نقل الوحدة اليمنية من الدور الذي تحتله ضحية التاريخ إلى المشاركة في صناعة التاريخ.
فـ على وقع هذه الصدمات تفتحت عينا "سلطان" الرجل الذي نادى بضرورة محاربة الحكم الملكي والتسلل الإيراني إلى اليمن، وباعتبار وحدة اليمن قضية العرب جميعًا وقضية العالم الإسلامي، واشترك بنفسه على رأس وفودٍ زارت العديد من الدول المختلفة لإطلاع العالمين العربي والغربي بالظلم الذي يتعرض له اليمنيون، ولإحياء قضية وطنه ووحدته في نفوس بني جلدته والعالم أجمع.
ولم يأتلف الشيخ البركاني مع غربته الطويلة التي احتلت فيه مكانةً اجتماعية عالية لليمنيين في جمهورية مصر العربية، فقد ظل ومازال مشدودًا إلى صنعاء، مكرسًا كفاءاته السياسية والقبلية والأخلاقية لتأسيس ثقافة استعادة الدولة اليمنية الحديثة، وككل مبشرٍ كبير، لم يتحدث للإعلام بقدر ما انخرط في القتال الفكري اليومي، دفاعاً عن الأمل المحاصر بموازين قوى عبثية لا يكسر وطأتها إلا إرادة وطنية متجردة من المصالح الضيقة وفلسفة الابتزاز والإنتهاز والمتاجرة بمعاناة المواطنين في الداخل والخارج.
هكذا لم يؤمن الشيخ البركاني بإمكانية التوصل إلى حل عادل في ظل الظروف الراهنة، فالحل والعدل مفهومان متناقضان، إذ كيف يكون من العدل ألا تكون صنعاء عاصمة اليمن؟ لكنه يضع هذا السؤال في غرفة الأشباح، ليتسنى له التعامل مع الواقع والعمل على تغييره، لذلك لم يؤمن أيضاً بالمغامرة، فتبنى برنامج الحل الممكن لترسيخ الكينونة الوطنية ولتمكين الشعب اليمني من الحضور في التاريخ بعدما تم طرده من الجغرافيا والتاريخ والوعي الإنساني معًا.