دون حيلة، تقف الطفلة أروى عبده ( 7أعوام) إلى جانب العشرات من المصابين بداء الليشمانيا على باب المركز العلاجي بالمستشفى الجمهوري بصنعاء، بانتظار الدواء الذي يخفف من آلامهم ويجنّبهم مخاطر صحية قد تبقي آثارها على وجوههم وأجسادهم.
لا شيء في الجوار، قد يسند آلاف المصابين من بينهم أروى، التي تعاني الليشمانيا الجلدية في أنفها، سوى ابتسامة طبيب فاقد الحيلة، يحاول جاهدا أن لا يخذل زائريه فيمكنهم من حقنة موضعية في حال تمكن من توفيرها عبر أحد المتبرعين.
لقد تركت الحرب بصمتها على وجوه وأجساد مرضى الليشمانيا، خاصة بعد أن فقدوا كل السبل في توفير الدواء المنعدم في المراكز الحكومية، والصنف الوحيد المتوفر في السوق، لا تساعدهم قدرتهم المالية على شرائه، فهذا المرض لا يصيب من يمتلكون ثمن دوائه
مثل أروى يقف على أبواب المراكز والمشافي العلاجية الحكومية في جميع المحافظات آلاف المصابين بداء الليشمانيا، بانتظار الدواء ، فبحسب آخر إحصائية أعلنتها منظمة الصحة العالمية في نهاية يناير/كانون الثاني، وصل عدد حالات داء الليشمانيا الجلدي المبلغ عنها في اليمن إلى حوالي 15 ألف حالة في عام 2023، مما يشير إلى انتشار كبير ومستمر للمرض ، وهو النوع الأكثر انتشارًا و الذي يسبب آفات جلدية تؤدي إلى ندوب دائمة وإعاقات.
و يوصف مرض الليشمانيا بأنه من أمراض المناطق المدارية المهملة لأنها تكاد تكون غائبة عن برنامج عمل الصحة الدولية، وكذلك غائبة عن معرفة الأفراد، وفقاً للصحة العالمية، مشيرة إلى أن المرض يصيب المجموعات الأشد فقراً، ويرتبط بعدة اسباب ابرزها سوء التغذية، النزوح، ظروف السكن الرديئة، ضعف الجهاز المناعي، ونقص الموارد المالية.
وفي تصريح خاص لـ “المجلة الطبية” أوضح مدير برنامج الليشمانيا بوزارة الصحة بصنعاء الدكتور رشيد الشامي أن ” داء الليشمانيات، الذي يسببه طفيل الليشمان، أصاب اليمن والعديد من المناطق الأخرى في جميع أنحاء آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية منذ العصور القديمة.
وأضاف الشامي: يظهر المرض في اليمن عبر ثلاثة أنواع: الجلدي، والحشوي، والمخاطي. وتتغير معدلات الإصابة بداء الليشمانيا في اليمن سنوياً بسبب عوامل تتعلق بناقل المرض والظروف البيئية، مشيراً إلى أن أكثر حالات الإصابة تنتشر بين الأطفال.
وينتشر داء الليشمانيا في جميع المحافظات اليمنية باستثناء سقطرى والمهرة وعدن، ويؤثر على كل منطقة بشكل مختلف، وفقا للدكتور الشامي، مشيراً إلى أن محافظات (عمران وحجة وإب ولحج وذمار) تشهد ارتفاعا في معدلات الإصابة، و في حين أن مراكز علاج داء الليشمانيا الجلدي متوفرة في جميع المحافظات، فإن حالات الليشمانيا الحشوية تتلقى العلاج في مراكز ومحافظات محدودة نتيجة ضرورة توفر خبرات طبية عالية الكفاءة لمعالجته، حسبما يشرح.
تمكنت أروى عبده ،القادمة من منطقة خيران المحرق بمحافظة حجة (شمال غرب صنعاء 226 كم)، من الحصول على حقنة موضعية في الأنف (مكان المرض) من المركز في وقت يتطلب علاجها الحصول على (60 ملل) من دواء الليشمانيا، يتم استخدامه بشكل يومي لفترة 21 يوماً، وفقاُ للدكتور علي هزاع منسق برنامج الليشمانيا والجذام بأمانة العاصمة.
في وقت لم يتمكن الرجل الخمسيني، محمد أحمد، من أبناء محافظة عمران (شمال العاصمة 50 كم) من الحصول على نفس الحقنة الموضعية لعدم موافقة الأطباء في المركز العلاجي ذاته، كون حالته وفقاُ للدكتور هزاع، تتطلب جرعة كبيرة تصل إلى 8 فيالات يتم حقنها عضل لمدة 21 يوما.
ولا تعد الحقن الموضوعية، ضمن بروتوكولات العلاج العالمي لداء الليشمانيا، وإنما يعمل بها أطباء المركز كحلول بديلة وموقتة في ظل غياب الأدوية، حسب الدكتور هزاع.
ويواجه مركز داء الليشمانيا في المستشفى الجمهوري بصنعاء ضغطا كبيرا نتيجة تدفق حالات الإصابة من جميع أنحاء البلاد، حيث أفاد منسق برنامج الليشمانيا والجذام بأمانة العاصمة الدكتور علي هزاع بأن المركز يستقبل يوميا ما بين 15 إلى 20 حالة مترددة و6 إلى 10 حالات جديدة.
ويؤكد الدكتور هزاع على ضرورة اتخاذ إجراءات فورية لتأمين الإمدادات الدوائية الكافية، منبها الى ان عدم توفير الدواء سيؤدي الى تدهور الأزمة الصحية للمرضى.
الطلب الكبير على العلاج من قبل المرضى، دفع الإدارة العامة لمكافحة الأمراض والترصد في وزارة الصحة لمخاطبة الإدارة العامة للتعاون الدولي في 17 فبراير الجاري أوضحت فيها الحاجة الماسة لتوفير كمية إسعافية طارئة لتغطية الاحتياجات العلاجية للمرضى، لا سيما مع ازدياد طلبات الاحتياج من المستشفيات بالمحافظات.
وتؤكد المخاطبة، التي حصلت عليها المجلة الطبية، الحاجة الملحة للمساعدات الطارئة لتغطية الاحتياجات العلاجية للمتضررين، خاصة مع تزايد الطلبات من المستشفيات في مختلف المحافظات.
وشددت الإدارة العامة لمكافحة الأمراض والترصد على ضرورة مخاطبة المنظمات الدولية بالتدخل السريع لتوفير الأدوية الأساسية، محددة الحاجة الملحة لصنف دوائي واحد من قائمة شملت ثلاثة أصناف، وبكمية تتراوح بين 13 ألفا إلى 14 ألف جرعة طارئة، لتغطية احتياجات قرابة 3600 حالة مصابة بالليشمانيا الجلدية و275 حالة إصابة بالليشمانيا الحشوية.
معد التقرير أجرى بحث ميداني في عدد من صيدليات الأمانة على الأصناف التي تضمنتها قائمة الوزارة، إلا أنه لم يجد سوى صنف واحد، لا تسمح إمكانيات المريض بشرائه، حيث يصل ثمن الفيالة الواحدة (50 ملي) قرابة (33.800) ريال يمني بما يعادل (63 دولارا) وقد تتراوح الكمية التي يحتاجها المريض الواحد ما بين فيالتين إلى ـ10 كجرعة تستخدم لمدة تتراوح ما بين 21 يوما إلى شهر كامل.
لقد نفذ المخزون الدوائي الخاص بالليشمانيا من مخازن الوزارة نهاية العام 2023 . و يقول الشامي “طالبت الوزارة العديد من المنظمات بتوفير كمية إسعافية من الدواء الا أنها لم تتلق تجاوبا حتى الآن “مشيرا إلى أن وزارة الصحة تقدم أدوية الليشمانيا مجانا في جميع المواقع العلاجية وخلال سنوات الحرب، عملت منظمة الصحة العالمية على تغطية العجز .
الجهود التي تبذلها وزارة الصحة، لتوفير العلاج المجاني، لم تلق تفاعلا إيجابيا حتى الآن، بحسب الشامي، على الرغم من المناشدات الموجهة إلى العديد من المنظمات، بما في ذلك طلبات الطوارئ، لكن لم تصل أي إمدادات. وهو ما وضع فرق الاستجابة في وضع صعب بسبب تزايد الحالات، لتلجأ إلى بعض العلاجات بديلة مثل العلاج بالتبريد أو تأمين كميات صغيرة من الأدوية من المتبرعين.
ويهدد غياب الدواء الخاص بعلاج داء الليشمانيا، الإناث بشكل خاص، حيث ستعاني المصابات من تشوه دائم في الوجه بسبب آفات الوجه أو أماكن أخرى في الجسم، في حين أن الأنواع الحشوية قد تعرض 95% من المصابين بها للوفاة في حال عدم تلقي العلاج، بينما يترك النوع المخاطي تشوها حادا في منطقة الأنف والفم وقد يصل ليأكل جميع تفاصيل الوجه، وهو ما يحذر منه الشامي. مؤكداً أن الحالات غير المعالجة تساهم في انتشار المرض، مما قد يضاعف أعداد الحالات في عام 2024.
وفي حين لم تنجح وزارة الصحة بصنعاء في توفير الاحتياجات الدوائية بشكل عاجل فان معاناة المصابين ستتفاقم ما يجعلهم عرضة لمضاعفات طويلة الأمد، خاصة مع تأكيد منظمة الصحة العالمية على استمرار انتشار المرض.
تشدد الصحة العالمية في بيانها على أهمية تأسيس نظام ترصُّد أو تقويته من أجل تقييم اتجاهات هذه الأمراض، وإنشاء آلية تنسيق متعددة القطاعات، لاسيَّما في المناطق الموطونة بالليشمانيات الكبيرة.
وتوصي المنظمة بأهمية تجنب إصابة الأصحاء بالعدوى من خلال استخدام الناموسيات المعالجة بمبيدات الحشرات، وضمان الكشف الفاعل للحالات مما يسمح بالتشخيص الباكر وبالمعالجة الفورية، خاصة الحالات التي تنجم عن الليشمانية المدارية.
من جانبه وصف الدكتور الشامي بعض الإجراءات الوقائية بأنها بالغة الأهمية، مثل فحص النوافذ، وارتداء ملابس لكامل الجسم، واستخدام المواد الطاردة للحشرات للتخفيف من انتقال العدوى المنقولة بالنواقل خلال ساعات الغسق وحتى ساعات الليل.
على الرغم من التقديرات العالمية التي تشير إلى حالات جديدة سنوية من داء الليشمانيات تتراوح بين 600 ألف إلى مليون حالة في العالم، إلا أنه يتم الإبلاغ عن حوالي 200 ألف حالة فقط، وفقا لمنظمة الصحة العالمية، مما يسلط الضوء على عدم الإبلاغ عن المرض وعدم الاعتراف بانتشاره في جميع أنحاء العالم.
ومثل إقليم شرق المتوسط 80 ٪ ﻣن ﺣﺎﻻت داء اﻟﻟﯾﺷﻣﺎﻧﯾﺎت اﻟﺟﻟدي المبلغ عنها ﻓﻲ ﺟﻣﯾﻊ أﻧﺣﺎء اﻟﻌﺎﻟم، ويتوطن داء الليشمانيات الحشوي بشدة في العراق والصومال والسودان واليمن.