لعله من أهم الاستفهامات التي تشغل الكثير من الناس ، حيث إن سؤال ما هي أسباب زوال النعم وكثرة النقم ؟ يعب عن أكبر مخاوفهم في الحياة الدنيا وذلك لأن زوال النعم يجعل الحياة جحيمًا يصعب معه العيش، ومن ثم ينبغي معرفة ما هي أسباب زوال النعم وكثرة النقم ؟ لتجنب هذا الحال الصعب والنجاة من هذا الهلاك المحقق
ما هي أسباب زوال النعم
لاشك أنه من أكبر أسباب زوال النعم وجلب النقم، هو كفران النعم، وجحود المنعم، والاغترار بفتنة المال، وإنفاقه فيما يغضب الكبير المتعال، وليس مال المرء ما جمعه، ليقتسمه ورثته من بعده، بل حقيقة مال المرء، هو ما قدمه لنفسه، ذخراً له بين يدي خالقه.
وورد في صحيح البخاري: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ، قَالَ: ((فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ))، فما أحسنَ أن يكونَ للمؤمنِ أثرٌ يَبقى له بعدَ موتِه، وذخرٌ له عندَ ربِّه، فأهل القبور في قبورهم مرتهنون، وعن الأعمال منقطعون، وعلى ما قدَّموا في حياتهم محاسبون، فالموفَّق من يموت ويبقى عملُه، ويرحلُ ويدومُ أثرُه.
أسباب زوال النعم
وقد أرشدَنا ديننا الحنيف إلى الأسباب التي تزيل نعمة الله وتمحق بركة الرزق، وذلك في القرآن الكريم وسنة النبي الأمين – صلى الله عليه وسلم -، والتي منها على سبيل الذكر لا الحصر:
1- كفران النعمة: كفران النعمة بمعنى إنكارها وجحودها وعدم الإقرار بها سواء كان هذا بالقلب أو باللسان أو بالفعل، فإذا كان القلب منكرا للنعمة فهذا كفر بها، وإذا قال اللسان كلاما يدل على إنكار النعمة فهو كفر بها، وكذلك إذا صدر فعل يدل على إنكار النعمة فهو كفر بها.
وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: “اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك” (أخرجه مسلم في صحيحه رقم: 2739)، وقال تعالى: ” وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ” (إبراهيم: 7)، وقال الإمام الطبري – رحمه الله -: وقوله تعالى” لئن شكرتم لأزيدنكم”، يقول: لئن شكرتم ربَّكم، بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم، لأزيدنكم في أياديه عندكم ونعمهِ عليكم، على ما قد أعطاكم من النجاة من آل فرعون والخلاص مِنْ عذابهم.
وقال تعالى: ” ولئن كفرتم إن عذابي لشديد “، يقول: ولئن كفرتم، أيها القوم، نعمةَ الله، فجحدتموها بتركِ شكره عليها وخلافِه في أمره ونهيه، وركوبكم معاصيه (إن عَذَابي لشديد)، أعذبكم كما أعذب من كفر بي من خلقي، وقال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية: أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، ولئن كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها إن عذابي لشديد، وذلك يسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها. ( تفسير ابن كثير 4/479) .
وقال تعالى: ” وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” (النحل:112.)
قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره: ” هذا مثل أريد به أهل مكة فإنها كانت أمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها ومن دخلها كان آمنا لا يخاف.
كما قال تعالى: “وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا”، وهكذا قال ههنا “يأتيها رزقها رغدا” أي: هنيئا سهلا “من كل مكان فكفرت بأنعم الله” أي: جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم كما قال تعالى: “ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار” ، ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال: “فأذاقها الله لباس الجوع والخوف” أي: ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان وذلك أنهم استعصوا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه، وقوله والخوف وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه.
ويقول الشيخ السعدي – رحمه الله – في تفسيره: ” وهذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد، وتحترمها الجاهلية الجهلاء حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه، فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم، والنعرة العربية فحصل لها من الأمن التام ما لم يحصل لسواها وكذلك الرزق الواسع، كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن يسر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان، فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه، يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة، فكذبوه وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم ” وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون “.
2- احتقار النعمة والانتقاص منها سبب عظيم في زوالها أو محق بركتها: لا شك أن احتقار النعمة مغاير من بعض الوجوه لكفرانها؛ فكفران النعمة جحود للنعمة من أصلها، أما احتقار النعمة فهو اعتراف بها لكنه مع احتقارها وانتقاصها، فهو مغاير للكفران من هذا الوجه.
وقد حذرنا الله – عز وجل – في كتابه، وحذرنا رسوله – صلى الله عليه وسلم – في سنته من احتقار النعمة وبين لنا أن عاقبة ذلك هو زوال هذه النعمة أو زوال بركتها ، قال تعالى: ” وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ” (سبأ: 18).
وقال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره: يذكر تعالى ما كانوا فيه من الغبطة والنعمة، والعيش الهنيء الرغيد، والبلاد الرضية، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة، بعضها من بعض، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماءً وثمرا، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم، ثم بين تعالى ازدراءهم للنعمة وبطرهم فقال تعالى: ” فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” ( سبأ: 19 ) .
أسباب كثرة النقم
لعل من أكبر الأسباب التي أدت بنا إلى هذا الحال من كثرة النقم هي كثرة المعاصي والمجاهرة بها ، واستحل الكثير من الناس المحرمات التي حرّمها الله في كتابه الكريم؛ كالزنا والربا والرشوة وعقوق الوالدين وهجر الأقارب ، وقطع صلة الرحم ، والسرقة والسلب ، ونهب الأراضي والعقار بغير وجه حقٍ ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وجرائم القتل وإزهاق الأنفس المعصومة بغير حق ، والشح والبخل والحسد ، وعدم الرحمة بالفقراء والمحتاجين والأرامل والأيتام ، وشرب الخمور والمخدرات وغيرها من الموبقات يقول -سبحانه-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41]، (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30].
وكذلك من الأسباب التي أدت بنا إلى كثرة النقم: امتناع الكثير من الناس عن أداء الواجبات التي أوجبها الله في كتابه الكريم ، من توحيد لله -عزَّ وجلّ- وعدم الإشراك به ، وصلاة وزكاة وصيام وحج ، يقول -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف: 96 - 99].
وورد أن المعاصي مزيلة للنعم جالبة للنقم ، مؤدية إلى الهلاك والدمار، روى ابن ماجة والحاكم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ، إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ؛ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ".
وجاء أنه إذا أردنا صلاحا لأحوالنا فعلينا أن نبادر بالتوبة والاستغفار والرجوع إلى الله -تعالى- ، علينا أن نقلع عن كبائر الذنوب الذي اقترفناها ولا زلنا نقترفها إلى اليوم؛ كشرب الخمور والمخدرات ، والخيانة الزوجية والاستهزاء بشعائر الإسلام، وإن أردنا صلاح الحال وتغير الأحوال فعلينا أن نجدد العهد مع الله ، ونفتح صفحة جديدة مع الله ، ونعيد النظر في توحيدنا لله؛ هل نحن موحدون لله حقا؟ هل نعرف الله حقَّ المعرفة في حال الرخاء وكثرة الخيرات والنعم أم لا ، أم نعرف الله إلاّ في حال الشدة ونزول الكوارث والزلازل؟ هل نلجأ إلى الله في جميع أحوالنا رخاءً وشدة سراء وضراء؟ يقول -سبحانه وتعالى-: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 65، 66].
ولنعد النظر في تأدية صلواتنا؛ هل نحن نؤدي الصلاة على الوجه المطلوب شرعا أم نقوم بتسريع تأدية الصلاة فلا نتمُّ ركوعها ولا سجودها؟ هل نحن نؤدي زكاة أموالنا حقيقة على الوجه المطلوب؟ الواقع يقول أن الزكاة التي أوجبها الله على الأغنياء تكاد تكون معدومة على رغم من كثرة الخيرات ، وعلى الرغم من وفرة الأموال بصورة لم تكن معروفة في أزمنة سابقة ، في سنوات سبقت كان الواحد منهم يتمنى لو يجد كسرة خبز يسد بها جوعته ، واليوم الكثير من المسلمين في جميع بقاع الأرض يعيشون في بحبوحة مالية وفي رغد من العيش ، وبوسائل الرفاهية والراحة ، وبالتحكم عن بعد لم يعرفوها من قبل ، فعلى الرغم من هذه النعم التي أنعمها الله على عباده نجد أنَّ أكثر الناس لا يزكون إلاَّ من رحم ربِّي.
وعليه إن أردنا أن تنزل الأمطار وتنزل الخيرات والبركات فعلينا أن نزكي أموالنا ، ونطهر نفوسنا من الجشع والطمع والبخل ، إن أردنا شفاءً لمرضانا فعلينا أن نداويهم بالصدقات ، إن أردنا أن يرحمنا الله فعلينا أن نرحم بعضنا البعض كبشر ، فالراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ، ومن فرج على مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يَسَّر على معسر يسر الله عنه يوم القيامة ، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والأخرة والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.