أظهرت دراسة جديدة أن موارد المياه الجوفية بجميع أنحاء العالم تضاءلت بشكل كبير، وانخفضت مستوياتها بحدة، على مدى السنوات الأربعين الماضية.
تشير نتائج الدراسة، التي نشرت في مجلة "نيتشر" العلمية، إلى أن احتياطيات المياه الجوفية في المناطق القاحلة ذات الأراضي الزراعية الواسعة، شهدت انخفاضًا أكثر من غيرها، بسبب استخدام كميات كبيرة من المياه في الزراعة.
خلصت الدراسة إلى أن استنزاف المياه الجوفية يشكل تهديدًا متزايدًا للمجتمعات البشرية في جميع أنحاء العالم، في الوقت الذي يتفاقم فيه هذا التهديد بسبب تغير المناخ، داعية لاتخاذ إجراءات عاجلة.
تعرف طبقة المياه الجوفية بأنها جسم من الصخور المسامية أو الرواسب والرمل والحصى المشبعة بالمياه الجوفية، التي تكونت داخل هذه الصخور عبر أزمنة مختلفة، قد تكون حديثة أو قديمة جدا لملايين السنين.
تدخل المياه إلى طبقة المياه الجوفية عندما يتسرب هطول الأمطار أو مياه النهر إلى التربة أو قاع الحصى، ويمكنها بعد ذلك أن تتحرك عبر طبقة المياه الجوفية وتخرج مرة أخرى من خلال الينابيع والآبار.
جمع الباحثون من جامعة كاليفورنيا، سانتا باربرا (UCSB)، عددا ضخما من البيانات من أكثر من 170 ألف بئر لرصد المياه الجوفية من جميع أنحاء العالم، على مدار الأربعين عاما الماضية.
أظهرت البيانات بعد تحليلها أن البشر استخرجوا كميات كبيرة من المياه الجوفية في جميع أنحاء العالم، ووسعوا نطاق الاستخراج في العقود الأخيرة.
كشفت القياسات التي أجراها الباحثون عن أن مستوى المياه انخفض في معظم الطبقات الصخرية الحاملة للمياه الجوفية، والمعروفة باسم طبقات المياه الجوفية، بشكل كبير في كل مكان في العالم تقريبًا منذ عام 1980، وتسارع هذا الانخفاض منذ عام 2000 بشكل مثير للقلق.
تتجلى التأثيرات بشكل أكثر وضوحا في طبقات المياه الجوفية في المناطق القاحلة في العالم، بما في ذلك ولاية كاليفورنيا والسهول المرتفعة في الولايات المتحدة، إلى جانب إسبانيا وإيران وأستراليا وبعض دول البحر المتوسط.
يقول هانسيورغ سيبولد، كبير العلماء في قسم علوم النظم البيئية في المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا في زيورخ، والمؤلف المشارك في الدراسة: "إن بقية العالم يهدر أيضا المياه الجوفية وكأن الغد لن يأتي".
أضاف: "لم نتفاجأ بالانخفاض الحاد في مستويات المياه الجوفية في جميع أنحاء العالم، لكننا صدمنا من مدى ارتفاع وتيرة هذا الانخفاض في العقدين الماضيين".
أحد الأسباب التي ذكرها سيبولد أن الانخفاض المتسارع في مستويات المياه الجوفية في المناطق القاحلة، هو أن السكان يستخدمون المياه الجوفية بشكل مكثف في الزراعة، ويضخون الكثير منها إلى السطح لري المحاصيل، بمعدل زائد عن اللازم.
علاوة على ذلك، فإن عدد سكان العالم آخذ في النمو، مما يعني الحاجة إلى إنتاج المزيد من الغذاء، وبالتالي استخدام الكثير من المياه.
على سبيل المثال، تستنزف المناطق القاحلة في إيران، وهي واحدة من البلدان التي انخفضت فيها احتياطيات المياه الجوفية أكثر من غيرها، الكثير من المياه لأغراض الزراعة المروية.
أكد العلماء أيضا أن تغير المناخ يؤدي إلى تفاقم أزمة المياه الجوفية، حيث أصبحت بعض المناطق أكثر جفافاً وسخونة في العقود الأخيرة، مما يعني أن المحاصيل الزراعية تحتاج إلى ري أكثر كثافة.
قالوا إنه في الحالات التي يؤدي فيها تغير المناخ إلى انخفاض هطول الأمطار، تتعافى موارد المياه الجوفية بشكل أبطأ، هذا إن حدث تعافيًا بالأساس.
كما أن هطول الأمطار الغزيرة، الذي يحدث بشكل متكرر في بعض الأماكن نتيجة لتغير المناخ، لا يساعد بأي شكل من الأشكال في تعافي موارد المياه الجوفية.
وذلك لأنه في حال وجود المياه بكميات كبيرة، فإن التربة لا تستطيع امتصاصها في كثير من الأحيان، بدلا من ذلك، تُصرف المياه على السطح دون أن تتسرب إلى الطبقات الجوفية، وتظهر هذه المشكلة بشكل خاص في الأماكن ذات المستوى العالي من عزل التربة، مثل المدن الكبيرة.
بصيص أمل تقول المؤلفة المشاركة ديبرا بيروني: "تكشف الدراسة أيضا عن أخبار جيدة، لقد تعافت طبقات المياه الجوفية في بعض المناطق التي حدثت فيها تغييرات في السياسات أو توفرت بها مصادر بديلة للمياه للاستخدام المباشر أو لإعادة شحن طبقة المياه الجوفية".
حد الأمثلة الإيجابية هو طبقة المياه الجوفية في جنيف، التي توفر مياه الشرب لنحو 700 ألف شخص في منطقة كانتون جنيف ومقاطعة هوت سافوي الفرنسية المجاورة.
انخفض منسوب المياه الجوفية بشكل كبير في هذه المنطقة بين عامي 1960 و1970، لأن سويسرا وفرنسا كانتا تسحبان المياه بطريقة غير منسقة، حتى إن بعض الآبار جفت وكان لا بد من إغلاقها.
فيما بعد، اتفق السياسيون والسلطات في كلا البلدين على تجديد طبقة المياه الجوفية بشكل مصطنع عبر ضخ المياه من نهر آرفي لتثبيت مستوى المياه الجوفية أولًا ثم رفعه لاحقاً، وذلك من أجل الحفاظ على موارد المياه المشتركة، وكان التدخل ناجحاً لحد كبير.
يقول سيبولد: "على الرغم من أن مستوى المياه الجوفية هناك لم يعد إلى مستواه الأصلي، إلا أن التجربة أكدت إمكانية التدخل لمنع مستويات المياه الجوفية من الانخفاض".
في مثال آخر، قررت إسبانيا بناء خط أنابيب كبير لنقل المياه من جبال البرانس إلى وسط البلاد، لتغذية طبقة المياه الجوفية في منطقة لوس أريناليس، ونجح الأمر أيضا.
يرى الباحثون في هذه الأمثلة بصيصا من الأمل، وأنه يمكن اتخاذ سياسات وتدابير مناسبة في أماكن أخرى من العالم، لتجديد طبقات المياه الجوفية المستنزفة.
خطر مضاعف في السواحل تدعو الدراسة إلى اتخاذ المزيد من التدابير بشكل عاجل لمكافحة استنزاف إمدادات المياه الجوفية في مناطق عديدة من العالم.
يحذر سكوت جاسشكو، الباحث والمؤلف الرئيس للدراسة: "بمجرد استنفاد طبقات المياه الجوفية بشكل كبير في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، قد تحتاج إلى مئات السنين للتعافي، لأن هذه المناطق ببساطة لا يوجد بها ما يكفي من الأمطار لتجديد طبقات المياه الجوفية بسرعة".
يحذر الباحثون أيضا من أن طبقات المياه الجوفية في المناطق الساحلية تتعرض لخطر إضافي، لأن منسوبها عندما ينخفض عن مستوى معين، يمكن أن تغزوها مياه البحر.
يؤدي ذلك إلى تملح الآبار، مما يجعل المياه الموجودة بها غير صالحة للاستخدام، لا للشرب ولا لري الحقول؛ وتتسبب في موت الأشجار التي تصل جذورها إلى خط تدفق المياه الجوفية.
وفق الدراسة، يعاني الساحل الشرقي للولايات المتحدة من مشكلة مماثلة، وتوجد به الآن غابات أشباح واسعة النطاق، لا يوجد بها شجرة واحدة حية.
يقول سيبولد: "لهذا السبب لا يمكننا أن نضع المشكلة في ترتيب متأخر على قائمة أولوياتنا