أن تعمّ أجواء المدينة رياح تحمل الغبار أمر يستاء منه كثيرون لدواعٍ صحية ولكونه مصدر إزعاج لغالبية الناس. واقع الحال يختلف عند الفنان السوري جورج صايغ، فبفضل هذه الرياح ستمتلئ كل المركبات في الشوارع بالغبار، وهي فرصة لا تفوّت للرسم على زجاجها.
يحمل صايغ ريشته وأدواته الخاصة باحثاً عن نافذة سيارة مركونة في الشارع، ويبدأ بتشكيله الفريد من نوعه لتكون اللوحة الفنية نافذته إلى العالم. معرض متنقل
التشكيليون يعدّون اللوحة بمثابة الابن حين ينتهون من إنجازها. الأمر لدى صايغ مختلف، فهو يرسم على غبار زجاج السيارات وينصرف، لتجول لوحته بما فيها من مواضيع تحاكي وجوه أناس بسطاء شوارع المدينة، متنقلةً راسمةً تارةً بسمة على وجوه المارة، وطوراً لحظة تأمّل حين تتوقّف المركبة عن السير.
تتلاشى كل الوجوه واللوحات المرسومة ذاهبةً أدراج الرياح أو تتساقط خطوطها مع انسكاب المياه المنهمرة على السيارة عند تنظيفها من الغبار.
الراسم على الغبار فنان متمرسٌ لا تخطئ ريشته طريقها على بياض الورق الأبيض، وريشته المغمسة بألوان الزيتي والفحم تتلاعب صانعة شتى أنواع الوجوه في رسوم البورتريه، لكن ما الدافع وراء انتقاله إلى الرسم بالغبار، لافتاً أنظار السوريين وصانعاً معرضا متنقلا في الشوارع؟
يقول صايغ لـ(اندبندنت عربية) "أردت أن أخرج للهواء الطلق وأرسم هناك حتى الناس البسطاء يشاهدون الفن"، ويضيف "صحيح أن الطبيعية أو هطول الأمطار يزيلان كل تلك اللوحات وممكن بفعل فاعل. لكن لا مشكلة لأنها لوحات تشبه البشر أو أي كائن".
الفن للجميع
يرى صايغ أن الناس لا يشاهدون بما يكفي المعارض الفنية والفن صار أسير صالات العرض، ويقول "الرسم على الغبار لا يسمح لسماسرة الفن بشراء أي عمل منها، هذه أعمال تظهر للناس وتتلاشى".
لوحاته أشبه بومضة برق بجو عاصف تخطف الأنظار، الناس يحبّون رسمه ومواضيع اللوحات، التي يختلقها على الرغم من أن معظمها من الوجوه.
أحد أصحاب السيارات التي رسم على زجاج مركبته أعرب عن إعجابه الكبير باللوحة، وإن كان يعدّ الأمر تطفلاً على مركبته الخاصة، إلا أنه تطفّل جميل حسب وصفه. يقول الرجل "كم أُعجبت بهذه اللوحة لوجه امرأة على زجاج سيارتي وكم كنت مغتاظاً لأنها مُحيت، وللمرة الأولى في حياتي وددت أن تبقى سيارتي بكل غبارها". لا لعقارب الساعة
لا يلتفت فنان لوحات الغبار السوري للمدة الزمنية التي يستغرقها عمله ولا يأبه لعقارب الساعة، بل ينسى نفسه أمام زجاج السيارات المتّسخ ويحاول بأصبعٍ من يده أن يغيّر نظرة الناس إلى الأشياء.
وبينما يحوّل صايغ القبح إلى جمال، لا يكلّفه الأمر شراء أدوات الرسم والورق الذي غلا ثمنه مع ارتفاع الدولار مقابل الليرة السورية، فهو يحرّك أصابعه فقط أثناء مروره في الشارع.
وقبل أن يتطاير الغبار، لعبت آلات التصوير وحدها أو كاميرات الهواتف النقالة دور توثيق لحظات هذه اللوحات. سائق مركبة ممّن اختارها الفنان لرسم إحدى لوحاته، انتقل من دمشق إلى طرطوس، فشاهد العمل أعداد لا تحصى من الناس، وكيف كانت الدهشة التي اعتلت وجوه من رأى الرسم المصنوع من الغبار فقط.
وحده رامي الجبلي، مالك "مغسلة" سيارات، يتندّر ممازحاً، ويقول "لو بقي فنان الغبار على تلك الحالة يرسم للناس على زجاج سياراتهم، سنغلق ورشات غسيل السيارات! إنه مبدع". تقريب الفن من الناس
لوحات كثيرة من أعمال صايغ لا تصل إلى خواتيمها، إذ يصل صاحب السيارة في وقت أنجز فيه نصف الرسمة ويسير بعربته. لكن لم يصادف أن شعر أحدٌ باستياء من تصرّفات الفنان ومبادراته، على العكس من ذلك "موقف أصحاب السيارات كان جيداً وإيجابياً، وأصبحوا يلتقطون صورا للوحات"، التي لا تذهب هباءً.
يرفض الصايغ وضع ما ينجزه على زجاج السيارات في إطار الاستعراض، بل مبادرة تستحق التوقّف عندها. ويوضح "في عالمنا العربي نفتقر لهذه المبادرات والفن بعيد عن الناس. لا بدّ من نزول الفن للناس بهدف تقديره، وبالنسبة إلى تطوير التجربة يكمن في نقل ما كنت أرسمه من أفكار على الغبار إلى الألوان الزيتية داخل مرسمي".
وبينما تعدّدت أساليب الرسم بأدوات جديدة ومبتكرة، منها الرسم بالقهوة أو الرسم على الرمل وغيرها، يبقى الرسم بالغبار على زجاج السيارات طريقة إبداعية، تنقل اللوحة إلى الشارع والناس من دون حواجز.