الجمعة ، ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ ساعة ٠١:٠٣ مساءً

"يوم وليلة"... عندما تنشغل السينما التجارية بالمعالجة الاجتماعية

تستعرض الكاميرا حركة "فرح"؛ طفلة متلازمة داون الجميلة، وهي تضحك وتلعب مع والدها في بداية فيلم "يوم وليلة"، فتجرّنا بذلك لا فقط إلى التعاطف مع هذه العلاقة الأسرية الخاصة، لكن أيضاً إلى الاطمئنان، ولو إلى حد ما، لفكرة أن الأمل لن يغيب تماماً عن بقية الفيلم، وهي فكرة سنحتاجها فيما بعد عندما تتشعب القصص التي يحاول السيناريو روايتها، ويغلب عليها طابع الكآبة.

الفيلم من تأليف يحيى فكري وإخراج أيمن مكرم، وهو بطولة جماعية لخالد النبوي وحنان مطاوع ودرة وأحمد الفيشاوي، بالإضافة إلى آخرين منهم خالد سرحان وفاضل الجارحي ومحمد عادل والصغيرة ميرنا في دور "فرح". ومع ذلك تكاد تتساوى مساحات الأدوار بين الجميع، فالسيناريو في الحقيقة هو البطل. تستحق كل شخصية فيلماً مستقلاً بها، تبدو خارجة من عالم ثري، لا يظهر لنا منه سوى تقاطعاته مع عوالم الشخصيات الأخرى. تتكرر مشاهد مأخوذة لميدان السيدة زينب في القاهرة من ارتفاع بعيد، أولاً في النهار ثم بعد ذلك في الليل، صور تكثف زمن أحداث الفيلم الذي يعبر عن عنوانه، فما نراه هو ما يجري للأبطال خلال يوم وليلةِ الاحتفالِ بمولد السيدة.

يلعب خالد النبوي دور "منصور الدهبي"، والد "فرح" وأحد أفراد الشرطة المكلفين بتأمين هذا الاحتفال. يعتبر "الأمين منصور" حلقة الوصل بين عالمين، يبدوان متناقضين، لكنهما يتكاملان هنا على نحو غريب؛ عالم الإجرام والصفقات المشبوهة وعالم القانون أو سيطرة الدولة ظاهرياَ. "منصور" ليس قوياَ كما كان "حاتم" في فيلم "هي فوضى" ليوسف شاهين، أو بمعنى أصح ليس متجبراَ، لكنه ليس ضعيفاَ كذلك. يدرك "منصور" أنه يعيش في ما يشبه الغابة ويتعامل من هذا المنطلق، غير أنه مشدود في النهاية إلى نوع من الهشاشة الداخلية، مبعثها رعايته لابنته الصغيرة "فرح" وحالتها بخاصة بعد وفاة زوجته.

عالم سفلي

يُعطينا السيناريو حججاً لزيارة هذا القِسم أو نقطة الشرطة في السيدة زينب، لنتجول في "الحجز" عندما يتعدى مواطن على موظفة أثناء تأدية عملها، فيُلقى القبض عليه، ونهبط معه إلى العالم السُفلي الذي قد لا نمر به في حياتنا اليومية. أما هذه الموظفة نفسها التي تتعرض للاعتداء "إيريني"، (تؤديها حنان مطاوع)، فتعيش مُحاصرة بكل معنى الكلمة، عليها أن تؤدي واجبها كابنة تجاه أم مريضة لا تتلقى رعاية كافية في مستشفيات التأمين الصحي، وأن تصدّ برفق، عطف زميلها في العمل "بيشوي"، عطفه غير المُحتمل بالنسبة لامرأة وحيدة لا تتمتع بحقوقها الزوجية ولا تحصل في الوقت نفسه على الطلاق، ناهيك عن العمل الحكومي الممل، وضغط الآخرين الذين لا ينسون أبداً أنها ليست "مُسلمة".

هذه المنطقة الحسَّاسة مِن النقاش الاجتماعي المصري سواء المُعترف به أو غير المُعترف به، تشغل مساحة كبيرة نسبياً من "يوم وليلة". تلجأ "إيريني" إلى أخيها "ميشيل" المُعلم في المدرسة، تطلب منه مالاً كي تقوم بنقل الأم إلى مستشفى أفضل. في هذه المدرسة يتعرض "ميشيل" لضغوط من زميله المُعلم السلفي المتشدد "عبد السلام". وكما يمكن أن نتوقع يُفرغ "ميشيل" غضبه وقلقه على أكُف التلامذة الصغار بواسطة "المسطرة" الغليظة. بين هؤلاء التلامذة، نجد ابن "ميرفت"، تلعبها دُرة، الممرضة جارة "منصور"، التي تعيل أولادها بعد أن هجرهم زوجها المُدمن. تكافح "ميرفت" لتحقيق هدف مُقدس هو أن تنفق على تعليم أولادها كي لا يلاقوا المصير نفسه الذي لاقته. وفي سبيل هذا الهدف، تحلل "ميرفت" لنفسها القيام بأفعال في الخفاء، منها مثلاً أن تغيب مع أحد الأطباء داخل غرفة مغلقة لبضع دقائق مقابل مبلغ صغير من المال، في مشهد يُذكِّرنا بشيء مشابه أدته هند صبري قبل سنوات في فيلم "عمارة يعقوبيان" لمروان حامد.

هناك أيضاً "حودة" أو "محمود"، يلعبه أحمد الفيشاوي، الواقع في غرام "ميرفت" دون أن تبِل أبداَ ريقَه في هذا الحب. شقي يؤدي لصالح "المَعلِّم بجاتي"، أعمالاً خارجة عن القانون لا يتربح منها كما يود على المستوى المادي، وفوق ذلك يتلقى إهانات مستمرة من الجميع، يعيد توجيهها إلى زملائه في الشقاء من جهة، وإلى "ميرفت" التي تعتقد أن "حودة" لن يُفيدها، ولهذا ربما تُعرِض عنه.

على هذا النحو، يقدم "يوم وليلة" عالماً متصل الحلقات، يؤدي الضغط على إحداها إلى إزاحة البقية. هنا لا يوجد شخصٌ بريء كلياً، ولا يوجد كذلك مَنْ لا يُعتبر ضحية بشكل ما. يعيش مثلاً المهندس "شريف حسن" حياة مرفهة مع أسرته في "كومباوند" منعزل على أطراف القاهرة، بعيداً عن الازدحام، في "صوبة زجاجية" كما يصف هو نفسه، لكنه يتعرض ذات يوم لحادثة سطو مسلح ينتزع فيها "حودة" مع زميله الشقي سيارة المهندس الفارهة، ويرهبه هو وزوجته. في اليوم نفسه يطرد المهندس "شريف" عاملاً بسيطاً من موقع البناء الذي يعمل به، ويحدث أن يكون هذا العامل بالصدفة هو شقيق "ميرفت"، الممرضة الضائعة، فيدفعها ذلك إلى المزيد من الضياع.     

تفاصيل سينمائية

يقدم لنا صُناع الفيلم صورة غنية بالتفاصيل، نشعر كلما مرّ الوقت أنها أليفة ولو لم نقض بها سوى زمن قصير على الشاشة. مثل بيت "منصور الدهبي" الذي يحتضن الصغيرة "فرح"، والمقهى البلدي الذي يُدير المعلم "بجاتي" عالمه وهو جالس به. هناك أماكن أخرى لن نشعر بارتياح كامل فيها، كالمنزل العشوائي لشقيق "ميرفت" وتتعرض فيه الزوجة للضرب، و"الحجز" القاتم في قسم الشرطة بنظامه المرعب، وبدرجة أقل مكتب "منصور الدهبي" نصف المُضاء نصف المظلم.

سعى خالد النبوي لوضع لمسة خاصة على شخصية "منصور" بين الطيبة أو الرحمة، والقسوة أحياناَ، وخفة الظل وحتى طريقته الخاصة في مغازلة النساء، لكن الإكثار مِن تفاصيل الصفقات التي يقوم بها مع أشخاص من هؤلاء المجرمين، والإيحاء باحتمال فساده في النصف الأول من الفيلم ربما يكون قد أدى إلى تشتت المشاهِد وعجزه عن تقييم حقيقة موقف "منصور الدهبي"، خصوصاً في مسألة تورطه في سرقة سيارة المهندس "شريف".

ومع أداء حنان مطاوع البسيط والعميق في آن لشخصية مُركّبة كشخصية "إيريني"، وجرأة الطرح على مستوى السيناريو، لم تخلُ جملُ الحوار التي جاءت على لسانها من استخدام مبَالَغ فيه للمفردات الدينية (والعدرا والإنجيل وأبونا إسحاق)، كأنها تُذكر المتفرجين كل لحظة بأنها مسيحية. من جهة أخرى، تتراجع قصة شقيقها الأصغر "بيتر" وصداقته بالفتاة المُحجبة خطوة للوراء، لأن العقدة الرئيسية في هذه العلاقة كما يقدمها الفيلم، وهي مجرد علاقة صداقة، لا يمكن أن تكون استحالة إيجاد مكان يلتقي فيه الصديقان، مع الاعتراف بأهمية شخصية "بيتر" كممثل لجيل أحدث يتعامل مع الحدود الدينية بأريحية أكبر ويتمرد بنعومة على تقاليد مجتمعية متجمدة.

يجدد "يوم وليلة" الأمل في السينما المصرية التجارية، بعيداَ عن السينما المستقلة التي كشفت في بعض الأحيان عن جفاء صريح مع ذهنية المتفرج العادي. تحتاج الأفلام إلى فكرة جيدة، ورؤية منطقية للعالم، واجتهاد حقيقي من صُناع العمل، أكثر من حاجتها لنجم شباك يفرض قياساته الشخصية على صناعة بحالها. عموماَ لا يفتقد هذا الفيلم لوجود النجوم، فقد جعل المخرج أيمن مكرم من كل ممثل نجماَ في مكانه.

أجمل مشاهد الفيلم هي تلك التي يخاطب فيها الأبطال خالقَهم ببساطة وصراحة، كلُ على طريقته معبراً عن مخاوفه وتمسكه بالرجاء، أو عندما يجاهرون باعتقادهم أنهم مطرودون من الرحمة ومنسيون. وإذا كانت "السيدة زينب" كمزار ديني هي المكان الذي يجمع الأبطال حول محيطها، فهي أيضاً التي تساوي بينهم في حاجتهم إلى الرحمة بقدر مطالبتهم بالعدل.