منذ آلاف السنين، عانى البشر من ويلات مرض الحمى الصفراء الذي تسبب سنوياً في سقوط أعداد كبيرة من الموتى. وقد سجل هذا المرض انتشاره بمناطق عديدة بكل من القارتين الإفريقية والأميركية وبشرقي آسيا، كما ظهر على شكل موجات امتدت لتبلغ أحيانا الولايات المتحدة الأميركية مخلفةً عدداً هاماً من الضحايا بها خاصة خلال العام 1793.
وقد انتظرت البشرية القرنين التاسع عشر والعشرين لتحقيق تقدم هام في الأبحاث حول الحمى الصفراء وفهم طبيعة وطرق انتقال هذا المرض. ويعود الفضل في ذلك لجملة من الأطباء والباحثين، كان أبرزهم الجنوب إفريقي ماكس تيلر والأميركي ولتر ريد والكوبي كارلوس فينلي.
وإضافةً لكل هذه الأسماء الهامة، يبرز اسم الطبيب الأميركي جيسي وليام لازيير (Jesse William Lazear) الذي كرّس جانباً كبيراً من أبحاثه للحمى الصفراء وقدّم حياته خدمةً للعلم من أجل إثبات نظرياته حول هذا المرض ففارق الحياة بسببه في ظروف صعبة وهو لا يزال في ريعان شبابه.
ولِد جيسي وليام لازيير في 2 أيار/مايو 1866 بمدينة بالتيمور بولاية ماريلاند الأميركية والتحق خلال مسيرته الدراسية بالعديد من المدارس والجامعات المرموقة كأكاديمية "ترينيتي هال" العسكرية وجامعة "جون هوبكينز" ومدرسة الأطباء والجراحين بجامعة كولومبيا، وأنهى تخصصه في مجال الطب بمعهد "باستور" بباريس قبل أن يعود مجدداً إلى بالتيمور ليشغل منصباً مرموقاً بمستشفى "جون هوبكينز".
منذ عودته لبالتيمور عام 1895، وجّه لازيير أبحاثه نحو مرضى الملاريا والحمى الصفراء، وسنة 1900 قَبِل بالانضمام للجيش الأميركي كجراح والتحق بالقوات الأميركية المتمركزة بمنطقة كيمادوس (Quemados) بكوبا.
برفقة عدد من كبار الأطباء بالجيش الأميركي بكوبا كولتر ريد وجيمس كارول، درس جيسي وليام لازيير طرق انتقال عدوى مرض الحمى الصفراء واتجه لتأييد نظرية العالم الكوبي كارلوس فينلي الذي تحدّث عن دور البعوض في نقله. واستغل الطبيب لازيير خبرته ودراساته حول البعوض للوصول لهذا الاستنتاج. ويوم 8 أيلول/سبتمبر 1900، كتب الطبيب الأميركي لازيير رسالة لزوجته أكد فيها أنه على الطريق الصحيح لتتبع الجرثومة المسببة للحمى الصفراء ودحض النظريات السابقة بشأن المرض.
وعن طريق تجربة غريبة سعى من خلالها لإثبات نظريته، جعل جيسي وليام لازيير من نفسه فأر تجارب فسمح لبعوضة حاملة للجرثومة المسببة للحمى الصفراء بلسعه ليصاب بالمرض الذي ظهرت أعراضه عليه خلال الأيام القليلة التالية. وقد حاول هذا الطبيب مواصلة أبحاثه حول أعراض الحمى الصفراء وانتقالها إلا أنه توفي بسببها يوم 26 أيلول/سبتمبر 1900، أي بعد 18 يوماً فقط من رسالته الأخيرة لزوجته، عن عمر يناهز 34 سنة تاركاً زوجته وطفلين رضيعين.
لاحقاً، أخفيت حقيقة وفاة جيسي وليام ليزيير لأسباب غامضة ارتبطت حسب بعض المؤرخين بتمكين عائلته من تعويض مالي. لكن سنة 1947، ظهرت حقيقة تجربة هذا الطبيب الأميركي الذي ضحّى بنفسه خدمةً للعلم ولإثبات طريقة انتقال الحمى الصفراء. وكتخليد لذكراه، أطلق اسمه على أحد مباني جامعة "جون هوبكينز"، كما تم تكريمه من قبل "كاتدرائية واشنطن الوطنية".