في خضمّ إجراءات إغلاق المدن ووقف الرحلات الجوية وإقفال المطاعم نتيجة النقص في المعاملات التجارية واحتجاز ملايين العمال في منازلهم، يتبدّى على نحو سريع أنّ الأضرار الاقتصادية الناجمة عن فيروس "كورونا" ستكون شديدة، من دون شكّ.
أعطت الظروف المستجدّة التي نتخبّط فيها حاضراً، الطارئة وغير المستحبّة، قوة دافعة للتكيّف بسرعة مع طريقة عملنا وتسوّقنا وتعلّمنا وطلب المشورة الطبيّة، متيحةً فرصةً اغتنمتها شركات التكنولوجيا.
ليس ثمة ما هو أبرز في الدلالة على هذا التحوّل من تطبيق مؤتمرات الفيديو "زوم"Zoom الذي يسمح للمجموعات والأفراد بإجراء اجتماعات عبر أجهزة الكمبيوتر أو هواتفهم الذكيّة المحمولة.
في حين كابدت سوق الأوراق المالية انهيارات تاريخية، شهد "زوم" فعلاً ارتفاعاً في قيمة سهمه بنسبة 50 في المئة في العام الحالي، إذ تحرّك سعره صعوداً إلى 29 مليار دولار (23.5 مليار جنيه استرليني).
اللافت أنّه لمّا كان بعض المستثمرين متحمسين للخوض في البورصة، اشتروا من دون قصد أسهماً في الشركة الخطأ. هكذا، شهدت القيمة السوقيّة لـ"زوم تكنولوجيز" - وهو مصنع صغير لقطع الهاتف في العاصمة الصينيّة بكين صودف أنّ "زووم" ZOOM مؤشره في سوق الأوراق الماليّة - تضاعفاً غير متوقّع في سعره، الشهر الماضي.
بيد أنّ ثروات "زووم" ليست مجرد ضجّة إعلاميّة. في الصين، اكتسبت الشركة ملايين المستخدمين الجدد في فبراير (شباط) الماضي، بعد فترة وجيزة من فرض السلطات في البلاد تدابير العزل المشدّد والحجر الصحي.
ارتفع معدل نمو "زووم" في الصين حوالى سبعة أضعاف، وفقاً لـ"أوليفر وايمان"، شركة الاستشارات الإداريّة العالميّة. ساعد ذلك في البناء على نمو متين أصلاً. في وقت سابق من الشهر الحالي، أفادت "زووم" بأنّ إيراداتها تصاعدت بنسبة 88 في المئة في غضون عام، لتصل إلى 662 مليون جنيه إسترليني. بالنسبة إلى بعض الشركات، أفضت الزيادة الهائلة في الإقبال عليها إلى مشاكل. حتى "مايكروسوفت" ذاتها، علماً أنّها واحدة من أربع شركات أميركيّة فقط ستصل قيمتها السوقيّة للمرة الأولى إلى 1 تريليون دولار (811 مليار جنيه استرلينيّ)، واجهت صعوبات في الخدمة أمس، إذ حاول كثيرون من المستخدمين تسجيل دخول إلى "تيمز"Teams ، برنامج الشركة العملاقة لمؤتمرات الفيديو عبر الإنترنت.
يعتقد بعض العاملين في القطاع أنّ ضرورة حفاظنا على عزلتنا خلال الجائحة التي نحن في غمرتها، ستعزِّز على المدى الطويل التحوّل في أنماط العمل، الذي ربما كان ينبغي أن يتحقّق في أوقات سابقة.
من بين هؤلاء مو فيلا، كبير مسؤولي قسم الشفافية في شركة "ترانسبيرنت بيزنس"، التي تطوِّر برامج مراقبة تتيح للمديرين إمكانية تتبّع إنتاجية موظفيهم، معتمدةً على أخذ لقطات شاشة متكرِّرة لشاشات أجهزتهم الحاسوبيّة.
لكن مثل هذه التكنولوجيا لا تسلم من المنتقدين. مثلاً، في الشهر الماضي، تراجع "باركليز"، البنك البريطانيّ المعروف بسرعة عن استعمال برنامج لمراقبة الموظفين بعدما حاصرته ردود فعل عنيفة اتهمته بتبنّي أساليب "بيغ برازر" (الأخ الأكبر نسبة إلى عين الرقيب الخفية في رواية أورويل "1984"). لكنّ فيلا يقول إنّ تكنولوجيا "ترانسبيرنت بيزنس تحترم الخصوصيّة وبعيدة من التطفّل".
على سبيل المثال، يمكن للموظفين مراجعة لقطات الشاشة الخاصة بيومهم قبل أن تُرسل إلى المديرين، ما يعني أنّ في مقدورهم استبعاد تلك المرتبطة بفترات توقّفهم عن العمل.
يقول فيلا في هذا الصدد، "حاولت الشركات هنا في وادي السيليكون وأماكن أخرى إنجاز الأعمال عن بُعد لمدة عشر سنوات. ولكن بعد الاندفاع الحماسيّ الأول، تخلّى عددٌ كبيرٌ من المكاتب عن الفكرة، خشية أن تقلِّل من الإنتاجيّة أو تؤدي إلى عواقب سلبيّة أخرى... في الواقع، يعتري القلق المديرين، إذ يعتقدون أنّهم لن يملكوا أيّة سيطرة على قوتهم العاملة بعد الآن. لكننا نظهر لهم أنّ القوى العاملة عن بعد يمكن أن تكون فاعلة، ونافعة ومنتجة".
في الوقت ذاته، يمكن للعمل عن بعد أن يقلِّل من الحاجة إلى السفر، ويقلّص الوقت الضائع في التنقّل، ويحقّق منافع ذات قيمة للمناخ. كذلك لا ننسى أنّه يسمح بزيادة المرونة التي أُثبت أنها تعزّز معنويات الموظّفين ورفاههم.
ليست المكاتب وحدها التي تتطوّر بسرعة في خضمّ الاستجابة لفيروس "كورونا". في وقت سابق من الشهر الحالي، طلبت "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" في بريطانيا من سبعة آلاف عيادة لأطباء عامين في إنجلترا إجراء أكبر عدد ممكن من استشارات المرضى عبر اتصال الفيديو بغية المساعدة في خفض انتشار "كوفيد- 19". قبل تفشي الوباء، أجري أقل من واحد من كل 100 موعد وفق هذه الطريقة، غير أنّ هذا الواقع يتغيّر بسرعة.
تُعتبر "ليفي"، الشركة الناشئة في مجال التكنولوجيا، إحدى الشركات التي تعمل على تحقيق التحوّل المطلوب في هذا المجال. تدرك جولييت باور التي تتولّى منصب المدير التنفيذي للمؤسسة في المملكة المتحدة، المشاكل التي تواجهها الخدمة الصحية في البلاد، لا سيما أنّها كانت تدير "إن. آتش. أس. ديجيتال"، وحدة التكنولوجيا الخاصة بـ"هيئة الخدمات الصحية الوطنيّة".
تقول باور، "لمّا كان المزيد من الأشخاص يعزلون أنفسهم، نساعد مرضى "كوفيد- 19" الذين جاءت نتائج تحاليلهم إيجابيّة في الحفاظ على إمكانية الوصول بسهولة إلى رعاية الطبيب العام في المنزل وخفض انتشار العدوى. وإلى جانب مساعدة "إن. آتش. أس" في التعامل مع الضغط المتزايد على خدماتها، نتأكّد أيضاً من أنّ في مقدور المرضى التواصل مع طبيبهم العام من أجل معالجة مشاكل أخرى، تماماً كما في الأحوال الطبيعيّة".
يكتسب هذا الأمر أهميّة بشكل خاص بالنسبة إلى بعض الأشخاص الأكثر عرضة للفيروس، أيّ أولئك الذين يعانون حالات صحيّة كامنة مزمنة على غرار داء السكري.
تذكّر شركة "ليفي" بأنّ تعيين المواعيد إلكترونياً يساعد في توزيع القوى العاملة بشكل أكثر كفاءة عبر تسهيل عمل الأطباء العامين من خلال المرونة والتواصل عن بعد. في هذا الوقت الذي يشهد طلبات استثنائيّة وموارد محدودة لن تكون موضع ترحيب من قبل موظفي "إن. آتش. أس".
وفقاً لباور، تضاعف الطلب على الرعاية الصحيّة الرقميّة لشركة "ليفي" في جميع أنحاء أوروبا خلال الشهر الماضي، وجاء ذلك كاستجابة مباشرة لفيروس كورونا. إنّها مقتنعة بأنّ المرضى والأطباء، بعدما جربوا استشارات الفيديو، سيكونون مستعدّين للتحوّل إلى الاستشارات الإلكترونية على المدى البعيد.
ربما تشير تجربة الصين إلى أنّ المستقبل سيشهد مزيداً من الازدهار لخدمات على شاكلة "ليفي". فقد شهدت "بينغ آن دكتور"، الخدمة الصينيّة المعنيّة بتوفير استشارات الطبيب العام عبر الإنترنت، ارتفاعاً في أعداد الاستشارات لامس التسعة أضعاف منذ بدء تفشي المرض، ليصل إجمالي عدد الزيارات الرقميّة إلى 1.1 مليار زيارة.
كذلك شهدت الخدمات الماليّة تغيّراً سريعاً في الممارسات. وارتفع عدد أقساط التأمين التي اشتراها مستخدمون عبر الإنترنت، والأمر نفسه بالنسبة إلى المعاملات المصرفيّة.
بالنسبة إلى مو فيلا، يمكن أن تكون تلك التحوّلات تغيّرات إيجابية في آفاق قاتمة، و"الشاغل الأساسي في هذا الوباء حماية الأرواح وصحتنا، ولكن من المهم جداً أن نستخدم الأدوات المتاحة كافة في سبيل خفض الضرر الذي سيسفر عنه".