الكارثة باتت واقعا في إيطاليا، هذا البلد الأوروبي الذي تحول في لمح البصر إلى بؤرة لانتشار فيروس كورونا المستجد، وغدت فيه مئات الجثث تحرق يوميا عقب جنازات عسكرية حزينة.
ما الذي يحصل في إيطاليا حتى يضطر فيها الأطباء للدخول في مرحلة "طب الحروب"، والتضحية بكبار السن مقابل إنقاذ الأصغر؟ ما الذي قادها نحو هذه المرحلة الكارثية من انتشار الوباء مقارنة بجيرانها مثل فرنسا وألمانيا وغيرهما؟ ما الذي يحدث حتى بات الأطباء بهذا البلد أمام خيار صعب يضطرهم لنزع أجهزة التنفس الاصطناعي عن الأكبر سنا ومنحها للأصغر؟
وحتى مساء الخميس، أعلنت الحكومة الإيطالية تسجيل 427 حالة وفاة جديدة بسبب كورونا، لترتفع بذلك حصيلة الوفيات إلى 3405، وهو رقم يتجاوز الصين (3245).
التهرم السكاني المعلوم أن فيروس كورونا يصيب الرجال والنساء ممن يعانون من ضعف في الجهاز المناعي، وهم في الغالب إما مسنون أتت السنوات على قلاعهم الدفاعية، أو مرضى يعانون من أمراض مزمنة، ما يجعلهم فريسة سهلة للوباء.
فعلى الصعيد العالمي لا يتجاوز معدل الوفيات 0.4% بالنسبة لمن هم دون الـ40 عاما، ويرتفع المعدل إلى 1.3% لدى البالغين من العمر 50 عاما، و3.6% لمن هم في الستين، ليصل إلى 8% لمن هم في السبعين، وإلى حدود 15% ممن هم فوق الثمانين.
وبناء على ما تقدم، فإن 80% من الوفيات الناجمة عن الفيروس تتعلق اليوم بالفئة العمرية بحد أدنى يبلغ 60 عاما، وفق دراسة أجراها المركز الصيني لمكافحة الأمراض، وجميع الدراسات تقريبا تقدم أرقاما مماثلة.
واستنادا إلى ما تقدم، يبدو جليا أن الأمر يرتبط -في جانب كبير منه- بالتركيبة الديمغرافية للسكان، خصوصا أن إيطاليا تعتبر البلد الأوروبي الأول، والثاني على مستوى العالم خلف اليابان، من حيث التهرم السكاني.
ففي عام 2019، ووفقا لأرقام الأمم المتحدة، فإن 23% من المقيمين الإيطاليين يبلغون 65 عاما أو أكثر، وهذا رقم يفوق أي دولة أوروبية أخرى (20.4% في فرنسا، 18.8% في أوروبا الشمالية، 20.6% في أوروبا الغربية، 21.1% في أوروبا الجنوبية).
معدلات من البديهي أن تنعكس على متوسط الأعمار في عام 2020، لتكون 47.3 في إيطاليا، في حين لم تتجاوز 41 عاما في فرنسا، وهذا يفسر -في جزء منه- سبب التفشي الكارثي للفيروس بالبلد الأول الذي يعاني من التهرم السكاني.
صحيفة "ذو لوكال" الإيطالية الناطقة بالانجليزية، قالت إن معظم الوفيات المسجلة تعود لأشخاص مسنين تتراوح أعمارهم بين 80 إلى 90 عاما، ما يؤكد العلاقة الوثيقة بين ما يحدث وبين التركيبة العمرية للسكان، أو الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالوباء والأقل قدرة على الشفاء منه.
انهيار المنظومة الصحية على الرغم من أن المنظومة الصحية في إيطاليا تعتبر واحدة من أفضل المنظومات على الصعيد العالمي، إلا أن التزايد المريع لأعداد المصابين بالوباء جعل الأطباء والبنية الطبية عاجزة عن استيعاب المرضى.
ففي البلد المتهرّم بدت العدوى شبيهة بما يحدث في الأفلام، وتحولت البلاد، خلال فترة وجيزة، إلى بؤرة للمرض، ما جعل الدولة عاجزة عن احتوائه.
وبحسب طبيبة تونسية تقيم وتعمل بأحد المستشفيات الإيطالية فإن البلاد دخلت مرحلة "طب الحروب"، أي أن الطبيب يقف أمام مريضيْن على سبيل المثال، الأول في الـ35 من عمره والثاني في الـ60، فيقوم بنزع أجهزة التنفس عن الأخير ومنحه للأول.
ففي هذا البلد، توجد حالات جرى اكتشافها في مرحلة متأخرة، فيضطر الأطباء أيضا للتضحية بها مقابل إسعاف آخر لا يزال ببداية مراحل المرض، كما أن الأعداد الكبيرة للمرضى أرهقت الطواقم الطبية والصحية، وأضحت الخدمات المقدمة أقل جودة.
عامل آخر، وهو أن الفيروس اجتاح المدن الإيطالية في وقت مبكر، ما جعلها تجد نفسها بمواجهة وضع خطير دون أن تتمكن من الاستعداد بالشكل الكافي، وهذا ما خلق نوعا من الارتباك، وأسفر عن الحصيلة اليومية المروعة من الوفيات.